لماذا سُمِّي المعروف معروفاً ؟
(1/3)
بقلم
: معالي الدكتور عبد العزيز عبد اللّه الخويطر / الرياض
وزير الدولة وعضو مجلس الوزراء السعودي
لماذا
سمي المعروف معروفًا، لعل اسمه جاء من أن المعروف إذا أُسْدِىَ شع ضياؤه؛ فتبين
للناس، وعرفوه؛ حتى لو أراد صاحبنه إخفاءه، وعدم التباهي بإسدائه؛ حتى لاتضيع
قيمته، أو تقل؛ وإن أريد به الأجر والثواب من الله؛ فهو أولى أن يصان وجهه من
الخدش، وإهابه من الرياء.
وأول من يذيع المعروف بين الناس، ويشيعه في
الملأ من أُسْدِيَ إليه المعروف، إذا كان أهلاً له؛ لأنه يعتبر إشاعته، وذيوعه،
أول خطوات الاعتراف بالجميل، والإقرار بالفضل، وهو أضعف وسائل الحمد والشكر، قبل
أن تسنح الفرصة لرده، بمقدار وافٍ، يتناسب مع ما أُسْدِي له من معروف، وما تلقاه
من عناية والتفات.
وإذا كان المعروف بذرة خيرة، وفي أرض خصبة؛
فهو أنبل صور المعروف وإسدائه؛ لأنه من إنسان خيّر إلى إنسان خيِّر، ولم يضع جهد
بين الطرفين؛ بل إن البريق يتنامى، ويزيد بمرور الوقت، وبالاستجابة الكريمة من
طرف، والتمادي في الخير من الطرف الآخر.
وحِدَّةُ أثر المعروف تأتي من أنه لا يكون
إلا عند الحاجة، عندما يكون الإِنسان متطلعًا إلى نجدة تأتيه، لموقف تعرض له، أو
حاجة أعوزته. وقد يكون لغير ذلك، بدءًا من متكرم، وجد أن لمعروفه مكانًا؛ فبادر
إلى إسدائه، دون طلب؛ ولكنه يعرف أنه في محله، ويأتي في وقته، وأنه سيلقى ترحيبًا
وقبولاً.
وفي التراث نصوص دارت حول المعروف وإسدائه،
وفيما دوّن منه، تُظهر جوانب متعددةً، ترى الصور التي يكون عليها، وما قيل عنه،
ونظرة الأوائل إليه، حسب ظروف إسدائه، وتفضل المتفضلين على المستحقين له. وفي
بعضها تنكشف الناحية النفسية، التي تكمن عند مسدي المعروف، أو تحدث عند المُسْدَى
إليه المعروف، وما تأتي به هذه الناحية من تأثير، وما تصل إليه من وقع.
ومن القصص، التي يمكن أن نذكرها، قصة تشرف
المقالة بذكرها؛ لأنها عن الرسول صلى الله
عليه وسلم وعن اعترافه
بالمعروف، مهما صغر، ومهما بعد وقته، ومن أي إنسان جاء، وهي تمثّل خلقُه الرفيع
صلوات الله وسلامه عليه في الوفاء بما يزيد عن المعروف المُسْدَى؛ ولكنه عليه
السلام يقيس ما يعطي بنفسه لا بالناس، وقد أعطى قيمةً لكلمة قالها رجل عنه، حمايةً
للحق، واتباعًا للعدل، فأكبر في قائلها بدأه بها، وجرأته فيها، وحسن نيته؛ فرد له
معروفه مضاعفًا، والقصة كما يلي:
"لما بلغه صلى الله
عليه وسلم هجاءُ الأعشى
لعلقمة بن علاثة، نهى أصحابه أن يرووه، وقال:
إن أبا سفيان شعث مني عند قيصر؛ فردّ عليه
علقمة، وكذَّب أبا سفيان.
قال ابن عباس: فشكر له ذلك".(1)
كانت كلمة علقمة كلمةً ردت كلمةً؛ فرد
الرسول صلى الله عليه وسلم عن علقمة كلامًا مؤثرًا، نهى أصحابه عن إشاعته، والشعر
سلاح فتاك، إذا انتشر، وشاع في المجتمع، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مجتمعهم واسع؛ ولهذا فإنّ عدم روايتهم لهجاء الأعشى قتل له، ومساعدة غيرهم
من المسلمين على قتله. وإن سنبلة الخير التي زرعها علقمة جاءت في أرض خصبة، أنبتت
سنابل من الخير، ودفن الشر، وإن رجلاً يرضى الرسول صلى الله عليه وسلم عن موقفه، هذا الرضى، لرجل نال شرفًا عظيمًا. والخير يضيء أين كان موقعه،
وأين كان مصدره، ويراه جيدًا من يعرف الخير ومراميه، ويقدر نية الأقدام عليه،
وتنفيذه.
وكان الصحابة رضوان الله عليهم من صفاء
الروح يقدرون المعروف قدره، وإذا غفلوا عن ذلك، أو غاب عنهم بعض مظهره؛ فإنهم
يفرحون بمن يذكرهم، ويسارعون إلى رده ما أمكنهم ذلك، خاصةً إذا كان صاحبه في حاجة،
وهو ما يجلعه عادةً يذكرهم به، وقد عرض للخليفة الراشد عمر بن الخطاب أمر من هذا
القبيل، قصته كالآتي:
"قام رجل من الأنصار إلى عمر رضي الله عنه، فقال:
أُذْكُرْ بَلاَئِيْ إِذْ فَاجَاكَ ذُوْ سَفَهٍ
يَوْمَ
السَّقِيْفَةِ وَالصِّديْقُ مَشْغُول
فقال عمر بأعلى صوته: ادن مني؛ فدنا منه؛
فأخذ بذراعه حتى استشرفه على الناس، وقال:
ألا إن هذا ردّ عنّي سفيهًا يوم السقيفة.
ثم حمله على نجيب، وزاد في عطائه، وولاه
قومه، وقرأ: ﴿هَلْ جَزَآءُ الإِحْسـٰـنِ إِلاَّ الإِحْسَـٰـنُ﴾(2).
لو بحث عن خير نموذج للخلو من العقد لوجد
أن عمر بن الخطاب من خير الأمثلة في ذلك؛ إنك لا تجده يخفي أمرًا، كل أمر يقدم
عليه يأتي مكشوف الغطاء، وهذا المثل الذي بين أيدينا من خير الأمثلة وأوضحها؛ فعمر
لم يُحاول أن يخفي الأمر، أو يقلل من شأنه، ولم ير أن عون شخص له، في موقف حاجة،
أمر يخجل منه، أو يجب أن يخفى، أو يبرر. إن الخليفة عمر تعدى هذا التفكير وقرّب
الرجل حتى صار في متناول يده؛ فرفعه إلى مكان يراه الناس حميعًا، في جمعهم ذلك،
وأشهدهم أن هذا الرجل صادق فيما قاله، وأنه في ذلك اليوم فعل ما فعل.
الهوامش :
(1) ربيع الأبرار: 4/317. البصائر: 9/192.
(2)
سورة الرحمن،
الآية: 60. ربيع الأبرار: 4/317. البصائر: 9/192.
جمادى
الأولى – جمادى الثانية 1430 هـ = مايو - يونيو 2009 م ، العدد : 5-6 ، السنة : 33